الرئيس الشهيد محمد مرسي
عزيز مصر
الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير". والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه..وبعد
هبّت رياح التغيير من تونس فتداعى شباب مصرعبر وسائل الاتصال الاجتماعي للخروج في مظاهرات واعتصامات سلميّة في 25/1/2011، انضمّ إليها ملايين المصريين الغاضبين ضد نظام الرئيس محمد حسني مبارك، وظنّ مبارك أنّ رياح التغيير لن تمسّه لأنّ لكل مجتمع ظروفه.
في البداية لم يستسلم الرئيس بسهولة كسائر الطغاة، فاستخدم القوّة المميته، وفشلت قوات الأمن في كبح ثورة الشعب، وأجبر على التخلي عن الحكم، فتنحّى وفوّض الحكم لنائبه عمر سليمان، وتبرّأ من جرائم القتل ووعد بأنّه لن يتهاون في معاقبة المتسببين، لكن القوات المسلحة تسلمت سلطة إدارة البلاد.
ونجحت الثورة وكشف الغطاء عن رأس النظام، وتحدث المقرّبون منه عن حياته الخاصّة، وفاحت رائحة فساد رأس النظام وأسرته ووزرائه، وأحيل العديد من رموز عهد الرئيس السابق حسني مبارك الى المحكمة بتهم تتعلق بالفساد المالي والإداري، وقتل المتظاهرين، وتعذيب المساجين.
تزايد العداء لحكم العسكر بسبب محاولات لوضع مباديء دستورية جديدة تجعل الجيش بشكل دائم خارج نطاق السيطرة المدنية.
وجرت انتخابات مجلس الشعب، ومنح المصريّون ثقتهم لنواب حزب الحريّة والعدالة، الذي جاء في المرتبة الأولى، وجرت انتخابات رئاسيّة فاز فيها الدكتور محمد مرسي العيّاط مرشّح الاخوان المسلمين على مرشّح مبارك أحمد محمد شفيق بفارق بسيط.
أتى مرسي بانتخابات ديمقراطيّة حرّة بعد ثورة شعبيّة، يحمل مشروع النهضة، وكلّه أمل وعزيمة بتحرير بلاده من الوصاية الأجنبيّة، والانطلاق بمصر نحو آفاق مستقبل زاهر، يحلم به كل روّاد الإصلاح والتجديد، وبدأ بداية مثاليّة، وقال كلمته المشهورة:: "أنه لا يرتدي قميصًا واقيًا مِن الرصاص ﻷنه بين أبناء شعبه".
لكنّ القيادات العسكريّة التي حكمت مصر منذ ثورة 1952، لم يكن من المقبول عندها أن تفقد دورها المستتر في الاقتصاد المصري الذي لا يليق بها، وأن يتكشّف فسادها وعلاقاتها برأس المال الخاصّ، وأن تتخلّى بسهولة عن نفوذها المتمثّل بإدارة أموال الدولة، من إدارة المصانع وشركات القطاع العام.
وكان السادات قد فتح للعسكريين بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، الباب لتولي إدارة مشروعات القوّات المسلّحة، ومنحهم الامتيازات وأعفاهم من الضرائب، وحرّرهم من اللوائح والقوانين.
وتولّى عدد كبير من المتقاعدين العسكريّين، من ذوي الرتب العليا في الجيش، مناصب هامّة وحسّاسة في الدولة كمحافظين وإداريين في طول البلاد وعرضها.
ولا يخفى دور "جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة" المتخصّص بانشاء المشروعات على الأراضي الخاصة بالقوات المسلحة، حيث منحه المشرّع المصري الحق بوضع اليد على أية أراضي مملوكة للدولة "تنفيذاً لخطة الدفاع عن الدولة".
ومن الجدير بالذكر أنّ القوّات المسلّحة المصريّة تتلقّى منحة ماليّة سنويّة من الولايات المتحدة الأمريكيّة، من خلال برنامجها (التمويل العسكري الخارجي)، وما أظنّ أنّ هذا الدعم السخي يخلو من الشروط المخلّة باستقلال القرار المصري.
كما يتلقّى عدد من كبار الضبّاط دورات عسكريّة في أمريكا، تفرض عليهم خلالها مناهج وتوجيهات محدّدة، وقلّما نجد انقلابيّاً في دول العالم الثالث لم يتخرّج من تلك المعاهد.
ويعمل كثير من المجنّدين للخدمة الإلزاميّة من أبناء مصر في مزارع الجيش بالسخرة، وخدمة أسر الضبّاط، كحجّاب وسوّاقين وطبّاخين، وآخرون يقضون فترة الخدمة في الزراعة وتربية المواشي والمداجن بالسخرة.
واستغلّ الانقلابيّون قلق الأقباط وخشيتهم من وصول رئيس إسلامي لمنصب الرئاسة، فتقاعسوا عن حماية الكنائس بهدف ترويع الأقباط، وضمّهم إليهم، وتفاقم خطاب الكراهية الطائفي التحريضي، حتى فشلت الدولة في منع نوبات جديدة من العنف الطائفي ضد الأقباط.
واستغلّوا رصيدا شعبيا معارضا للإسلاميين، نتج عن الأزمات التي لم يعط الرئيس الوقت الكافي لإصلاحها، لتسوقهم جميعا إلى تأييد الانقلاب فى معركة القضاء على روح ثورة 25 يناير 2011 والديمقراطية الدستورية، ولتعود بالبلاد إلى نظام حكم استبدادى غاشم.
ووجدها الانقلابيّون ومن خلفهم دول عربيّة وأجنبيّة، وإعلام منافق يغض الطرف عن عيوب العسكر وانتهاكاتهم لحقوق الإنسان منذ إعلان الجمهوريّة في عام 1952، فرصة للانقضاض على إصلاحات الرئيس المدني محمد مرسي وإنجازاته، وكان يريد تحويل الثورة وطاقتها الهائلة إلى طاقة بناء وتنمية.
وتطلع الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع المصري، إلى منصب رئاسة الجمهورية والسيطرة على السلطة، والإبقاء على سرية موازنة الجيش، وحماية مصالح القوى العالميّة، والتجاوب مع الدول العربية الخائفة من الديمقراطية والنموذج الإسلامي الصحيح".
وشغل الإسلاميّون بإصلاح ما أفسدته عهود الاستبداد، عمّا يدبر لهم من كيد العسكر والدولة العميقة من مكائد، خلال فترة حكمهم القصيرة، فلم يطهّروا الجيش والإعلام وأجهزة الأمن من أعداء الشعب وفلول العهد السابق، حتى تطاولت أحزاب الأقلية والسياسين الذين فشلوا في خمسة انتخابات واستفتاءات متتالية على حزب الأكثريّة، وحرّضت الجيش على القيام بانقلاب عسكري للإطاحة بالنظام الشرعي الذي انتخبه الشعب، والتقى هذا التحريض مع تطلعات بعض القادة العسكريين وطموحهم للاستيلاء على السلطة والوصول لكرسي الحكم.
ومهما تقوّلوا عليه فقد تمتع المصريون في عهده القصير بأعلى سقف للحرية، ومارسوا حقهم في التعبير والتصويت الحر، وحقّق قدراً كبيراً من الأمن في سيناء، وأطلق مشروع تنمية إقليم قناة السويس، ووعد بعدم التفريط بقطرة واحدة من مياه النيل، وأكّد أن أي نقص سيقابله قطرات من دمه، واستردّت مصر في عهده مكانتها الدوليّة، وعقد العديد من الاتفاقات التجاريّة مع دول العالم، وأقام علاقات متميّزة مع تركيّا، وكان موقفه من الثورة السوريّة مشرّفاً.
لكنّ وسائل الإعلام الموالية للدولة العميقة، المتمترسة خلف مراكز القوى، استغلّت جو الحريّة والانفتاح والتسامح الممنوح لها، فغضّت الطرف عن إنجازاته الكثيرة ونظافة عهده، وأخذت تنفث سمومها كالأفاعي لأنّها كانت مطمئنّة أنّها في مأمن من المساءلة.
ولم يعط الرئيس مرسي الوقت الكافي لإصلاح أو مساءلة قوات الأمن التي انقلبت عليه وعلى مؤيديه، ولم يتمكن من تفكيك عناصر أخرى من الدولة البوليسية القمعية التي ورثها عندما فاز في الانتخابات.
ولم يحترم الانقلابيّون إرادة الإمّة، وطووا صفحة الرئيس الشرعي محمد مرسي والدستور المستفتى عليه والبرلمان المنتخب بقوّة السلاح، واشتغلوا بدهاليز السياسة بعيداً عن مهمتهم الأساسيّة، ولم يحترموا الوقفات المليونيّة لمعارضي الانقلاب الدموي الذي كبّل إرادة الشعب المصري وحريّته، رغم الادّعاء بأنّ المظاهرات هي المقياس الحقيقي للإرادة الشعبية، التي بنوا شرعيّتهم عليها، وقاموا بفض الاعتصامات في ميداني رابعة والنهضة بالقوّة المفرطة، وإخلاء ميداني رابعة والنهضة باعتبارهما تهديداً للأمن القومي.
واستساغ العلمانيّون من رجال الإعلام والسياسة الظلم والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، مادام يقع على الإسلاميين، وألصقوا بهم تهمة التطرّف والإرهاب ظلماً وعدواناً.
وقطعوا المياه عن مقر الرئاسة إمعاناً في إيذائه، واستهتاراً بشرعيّته، وحرّضوا الغوغاء وأدعياء الثورة عليه، وأطلقوا لهم العنان، وأفسحوا لهم المجال للتجمّع في الساحات وجمع التواقيع، ومنحوهم المقرّات والمال الحرام، وادّعى قائد الانقلاب أنّه حصل على تفويض شعبي يخوّله عزل الرئيس المنتخب.
وعزلوا الرئيس المفترى عليه في زنزانة انفراديّة ست سنوات، ومنعوا عنه الدواء الضروري، وتجاهلوا التحذيرات من خطورة غياب العناية الطبية، وحرموه من زيارة أسرته سنوات.
ونسوا الأدب مع الله، عندما حرموا الرئيس المؤمن من أبسط حقوقه، فقال في إحدى جلسات المحكمة:"منعوا عني القرآن الكريم، لقد نسوا انني أحفظه منذ ثلاثين سنة، لقد كنت أريد ان ألمسه فقط".
وكان لملحمة سجنه واستشهاده في قفص الاتهام صدى واسعاً، وقالت رئيسة البرازيل:" على العالم ان يخجل غدا، واى مدعى ديموقراطيه فليصمت غدا، ونحن نرى رئيسا شرعيا يحاكمه جنرلات دم.
ولمّا أصرّ على رفض الاعتراف بالانقلاب أو التنازل عن كونه الرئيس الشرعي المنتخب، يئسوا منه، وقرروا قتله في الذكرى السابعة للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها، ويوم تنفيذ الجريمة نقلوه إلى إحدى قاعات معهد أمناء الشرطة بمنطقة سجون طرة، للنظر في القضيّتين: التخابر مع حماس، واقتحام السجون، وأودعوه قفصاً زجاجياً منعزلا عن القفص الزجاجي الآخر المودع فيه باقي المحبوسين.
قال مرسي أمام هيئة المحكمة: أنا غير قادر على أن أدافع عن نفسي، أنا بريء، ولن أفتح حقيبة الدولة إطلاقا، أبدا.
وأضاف: انتدبت المحكمة لي محاميا للحديث في الدفوع الموضوعية، أنا لم أقابله ولم ألتقيه، ولم أفصح له عن كل ما أعرفه.
ولمّا سقط مغشبّاً عليه، تركوه ملقى على ارض القفص الزجاجي حوالي 20 دقيقة، ثم حملوه بعدها على نقّالة إلى مستشفى السجن بليمان طرة، لمّا تأكّدوا من وفاته، ورفضت الجهات الأمنية دفنه في مقابر الأسرة بمحافظة الشرقية، وتم الاستقرار على مقبرة المرشدين، وقامت أسرته بتغسيله والصلاة عليه في مستشفى السجن، ومنع المفتي صلاة الغائب على روحه الطاهرة في مساجد الجمهوريّة.
وبينما كانت مصر تغطّ في نوم عميق، خرج موكب الشهيد محمد مرسي يحمله ثمانية أشخاص، هم أسرته ومحاميه، وابنه أسامة الذي أحضر من السجن، لينطلق الموكب الحزين بعد طلوع الفجر، وسط حراسة مشدّدة، وإخلاء الطريق المؤدي للمقبرة، على وقع خطوات موكب الإمام الشهيد حسن البنا، وهو يحلّق في ذاكرة الأجيال.
وكان من حق الرئيس الشرعي محمد مرسي العيّاط، على مؤرّخي عصره أن يدوّنوا سيرته من الولادة إلى الاستشهاد، ويحفظوا للأجيال من العبث والتزييف الوقائع والأحداث والوثائق والبيانات المتعلّقة بفترة حكمه القصيرة، ليستخلصوا منها الدروس والعبر، وينقلوا إليها خلاصة تجربة الحركة الإسلاميّة في الحكم، وما شابها من أخطاء صغيرة، وجد فيها أعداء مشروعهم الطموح ثغرة للولوج إليه، فاستغلّوها أبشع استغلال، وتآمروا عليه حتّى خطفوه، وتفنّنوا في تعذيبه وحرمانه من أبسط حقوقه نحو ست سنوات.
أراد قاتلوه أن يطووا صفحة عهده، وما علموا أنّ صفحات المجد التي سطّرها الشهيد محمد مرسي ستبقى خالدة أبد الدهر، وما هذا الكتاب إلاّ صفحة مضيئة من سيرة أولئك الذين لا تبلي الأيام ذكراهم.
ولن نيأس من روح الله كما أوصانا نبي الله يعقوب عليه السلام وهو يشكو بثّه وحزنه إلى الله، مهما حاول الانقلابيّون في العالم الإسلامي الذي أدمن على الانقلابات العسكريّة، حرمان شعوبهم من حقّها في اختيار نظام حياتها، واختيار حاكمها، والحيلولة دون تطبيق الشريعة المحمّديّة، التي مسّنا الضرّ بسبب تركها.
جاء الكتاب في ألف ومئة وعشرين صفحة من القطع العادي في مجلّد واحد، نرجو أن يكون موضع عناية الدارسين والباحثين، وصفحة بيضاء ناصعة في تاريخ الحركة الإسلاميّة وسيرة رجالها.
اللهم عليك بمن ظلم مرسي، وحال دون تحقيق وعده لشعبه (مشروع النهضة)، وحرم الأمّة من بركة تطبيق الشريعة.
اللهم خيب أمل قاتله، وأزل ظلمه، وأجعل شغله في بدنه، ولا تفكه من حزنه، وصير كيده في ضلال، وأمره إلى زوال، ونعمته إلى انتقال، وسلطانه في اضمحلال.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. المؤلّف
12/9/2019 محمد علي سعد الدين شاهين
الزيارات: 1412