ريّ من السماء

نشر بتاريخ: الثلاثاء، 04 كانون1/ديسمبر 2018 كتب بواسطة: الكاتبة الإسلاميّة: رقية القضاة

ارتفعت شمس الصحراء وازدادت لهيبا، ونفثت نسائمها الحارّة في كل اتجاه، وتلفتت المرأة المسافرة في هذا اليوم اللاهب حولها، تبحث عن شجيرة سمّر أو أي شيء له ظل في تلك الصحراء المترامية، لعلها تستظل من هذا الفيح الحارق، ولكنها لم تجد شيئا، ومدّت يدها إلى متاعها القليل الذي تحمله، وبحثت عن سقاء الماء علّها تجد فيه ما يروي ظمأها فوجدته خاليا جافا، فمضت تجرّ قدميها وقد أضناها المسير، والهب جوفها العطش، وهي صابرة محتسبة، ذاكرة شاكرة، لا هم لها إلّا ان يقبل الله عملها الذي هي فيه، وقد توجهت إليه سبحانه بالدعاء أن يقبل منها ويبلّغها وجهتها.


ولم تكد تفيق من مناجاتها تلك، إلّا ودلو من الماء معلّق بين السماء والأرض، فشربت حتى ارتوت، وقد ازدادت شكرا وحمدا ويقينا واحتسابا وثقة برب العزة سبحانه وتعالى.
لم تكن تلك المرأة الّا {بركة} حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تكنى {أم أيمن} وقد هاجرت لحاقا بمن سبقها من المهاجرين إلى المدينة المنورة فرارا بدينها، خشية ان تفتن عنه فتخسر الدنيا والآخرة
وما كانت تلك أول هجرة لها، بل هاجرت قبل ذلك إلى الحبشة، وقد ألقى بها البحر إلى الحبشة موطن أجدادها الذين جلبوا عبيدا، يباعون سلعة في زمن كان الإنسان فيه يسلب حريته وكرامته وولده، وفق قانون الجاهلية الجائر الأعمى، وهي عادت حين عادت إلى ذلك البلد تحمل في قلبها الحرية والتوحيد والعزة، حتى وإن كانت تعيش حالة الهجرة والفرار، فما وجدته في دين الله أرحب وأعظم و أسمى من أن تضحي به لقاء أي ثمن عظيم.
ولم تلبث أن رجعت مع من رجع من المهاجرين، وظلت تعاني العذاب معهم حتى أذن الله لهم بالهجرة إلى المدينة المنورة ليبدأ عهد الدولة العادلة التي ظلت على مدى الزمان مثلا لكل من يطلب دولة العدل ورحمة السلطان، وأخوة الامة وانتصارها.
وها هي تهاجر اليوم إلى يثرب مرة أخرى، تحمل كنزها في قلبها، وحيدة ليس معها إلّا ربها وكفى به وكيلا، لتقول لكل امرأة مسلمة مرّت بعدها على أديم الارض: لا يغرنّك كونك امرأة ضعيفة، فيقعدك هذا الشعور عن الانتصار لدينك وربك، فهي والله ميزة عظيمة أن تكوني امرأة تصنع الرجال وتعدهم لمستقبل دينهم وأمتهم، وباب الله أمامك مفتوح، لا يملك أحد أن يغلقه دونك.
ومضت أم أيمن في طريقها وقد ارتوت بتلك الشربة التي أكرمها بها ربها، ومرّت بذاكرتها تلك الأيام التي عايشت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين كانت جارية لأبيه وأمّه قبل مولده صلى الله عليه وسلّم، كيف احتضنته طفلا وأعانت أمه في العناية به، ومناداته لها {يا أماه } حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وطاف بخاطرها كرمه وحنوّه عليها، وعتقه إيّاها بعد زواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها، وتزويجه إياها من زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقد سمع زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :{من سرّه أن يتزوج امرأة من أهل الجنّة فليتزوّج أم أيمن} ويسارع زيد للزواج منها، وتنجب له أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبّه، وهي التي آمنت بدعوة النبي صلى الله عليه وسلّم حالما عرفت أنه بعث رسولا هاديا، فوجدت بركة في دينه ما تتمناه كل نفس شقية من السعادة، وكلّ ما تتمناه الارواح المقيّدة من الحريّة، وما تتوق إليه ما لقلوب الطيّبة من الرحمة والتيسير، والعدالة والدين الحق الذي تقبله العقول والقلوب، فتكون من أوائل مسلمي بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وتصل {بركة} إلى المدينة، وتبدأ رحلة الجهاد في ميادين البطولة، وتصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل غزواته، تسقي وتداوي وتعلي الروح المعنوية لجند يقدمون أرواحهم رخيصة إعلاء لكلمة الله، وها هي تحثو التراب في وجه من فرّ يوم أحد وتقول {إليك المغزل فاغزل به وأعطني سيفك} وحملت السيف حتى اطمأنت على سلامة النبي صلى الله عليه وسلم .
ويستشهد زوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه في غزوة مؤتة، فتصبر وتحتسب، وتفتح مكة وتتلو الفتح غزوة حنين وأم أيمن مع الجند وولدها ايمن مع من ثبت إلى جوار المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيستشهد صابرا مقبلا غير مدبر وتحتسبه ام أيمن شهيدا عند الله، يشرفها يوم العرض على ربها.
ولقد صانت ام ايمن لسانه في حادثة الإفك وشهدت بما عرفته عن الطيبة الطاهرة، عائشة ام المؤمنين، حين سألها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقالت: حاشا سمعي وبصري أن أكون علمت أو ظننت بها إلا خيراً}.
كانت امة حبشية مسترقّة فمن ّعليها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحرية، وكانت فقيرة معدمة، وحيدة فعوضها الله زوجا صالحا وذرية طيبة، ويتم فرحها وسرورها بصلاحهم حين يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيادة الجيش المبعوث إلى بلاد الشام، ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، فقد كان أسامة بن زيد بن حارثة الذي ظل ابنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبني حتى نزلت آية تحريم التبني، فصار يدعى حبّ رسول الله، وابن ام أيمن التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ام ايمن أمي بعد أمي، فهو أهل لثقة الرسول القائد الذي عرف أسامة ونشأته وبأسه وقدرته وتربيته الصالحة الصلبة الجهادية، فيأتمنه على بعث الشام.
والتحق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى وبكته أم أيمن بقلب الأم المفارقة، وقلب المسلمة الحزينة، ودخل عليها الصديق والفاروق فإذا هي تبكي، فقالا :ما يبكيك فقالت: أني لأعلم ان الرسول صلى الله عليه و سلم سار إلى خير مما كان فيه، و لكن أبكي لخبر السماء انقطع عنا فجعلا يبكيان معها.
لقد أشفقت أم أيمن على أمة الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، مخافة أن ينقطع الخير والنور عنها، فما كانت أم أيمن لتقول وهي ترى أمة محمد اليوم يعرض بعضها عن هديه ويتبع سنة الأمم الضالة بهذه الدعوى أو تلك؟، أو حين ترى بعض النساء المسلمات، يتطلعن إلى ما يطرحه الغرب من سموم فكرية ظنا منهن أن فيها الحرية والكرامة وهن واهمات ؟، ألا فلتنظري أيتها المسلمة إلى تلك الأمة الضعيفة المحرومة المسترقّة، كيف صارت بالإسلام حرّة النفس والفكر والعقيدة، كريمة مجاهدة فاعلة في مجتمعها وأمّتها وقد أخرجها الإسلام من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد. {ربنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماما}.

الزيارات: 1416