بين الصدّيق والفاروق
الصديق رضي الله عنه يشتدَّ عليه المرض ،ويوقن بلقاء الله تعالى ،ولا يحمله الم المرض على نسيان أمة محمد صلى الله عليه وسلم،ويبذل قصارى جهده في النصح لله ولرسوله وللمسلمين،
وينظر الصديق حوله فيرى خيرة اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مهاجرين وأنصار ،ولا يرى فيهم خير من عمر بن الخطاب للخلافة ،والصديق يعرف حق المعرفة تكاليف الأمر ومشقته ،فيدعو اليه عبد الرحمن بن عوف، ويسأله عن عمر بن الخطاب فيقول له عبد الرحمن بن عوف: (هو والله أفضل من رأيك فيه)، ثم طلب عثمان بن عفان ليسأله عن عمر كذلك، فقال: (اللهم علمي به أن
سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله
ويخشى بعض الصحابة على الأمّة من شدة عمررضي الله عنه فيقول أحدهم لأبي بكر :ما أنت قائلٌ لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: بالله تخوفني؟ أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من ورائك .
ودعا الصدّيق اليه عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: أكتب {بسم الله الرحمن الرحيم}، هذا ما عهد ابو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا إليها، حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدّق الكاذب، إنّي استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطّاب،فاسمعوا وأطيعوا، وإنّي لم آلو الله ورسوله وديني ونفسي وإيّاكم خيرا، فإن عدل فذلك علمي به وظنّي فيه، وإن بدّل فلكل امريء ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ويلي عمر الخلافة في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة في السنة الثالثة عشرة للهجرة
ولم تخب فراسة الصدّيق فيه، فقد والله استقام على أمر الله واتّقاه في رعيته، وفي نفسه، اختطّ البكاء في وجهه خطّين أسودين، وكيف لا يبكي من حمّل أمانة العباد، فحملها مشفقا {لو أنّ دابّة عثرت في العراق لسئلني الله عنها لم لم أسوّ لها الطريق
لم يقتل عمر شعبه بيده، ولم يكنز مال الأمة في مخبآته، ولم يصمّ اذنيه عن حاجاتهم وضراعتهم، بل وجد نفسه مسؤولا حتى عن عثرات الدواب!!
مناجاته لنفسه {ليتني لم أكن شيئا، ليتني كنت نسيا منسيا} ونقش خاتمه {كفى بالموت واعظا يا عمر}
سئل عمر لأي شيء سميت الفاروق فذكر قصة اسلامه، {قلت يا رسول الله ألسنا على الحق قال: بلى قلت: ففيم الإخفاء؟ فخرجنا صفّين أنا في أحدهما وحمزة في الآخر، حتّى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إلي وإلى حمزة فأصابتهم كآبة شديدة لم يصابوا بمثلها، فسمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم {الفاروق
وفي حادثة الإفك وقد طعن المنافقون في عرض عائشة ام المؤمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم كليم الفؤاد يستشير اصحابه في الأمر العظيم الذي ابتلي وزوجه الطاهرة به، يقف عمر قائلا: من زوّجكها يا رسول الله؟ قال الله، فقال الفاروق: أفتظنّ أن ربّك قد دلّس عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فنزلت كذلك، يعني آية البراءة للطاهرة ام المؤمنين عائشة
ولقد كان مثلا لا يتكرر في عفّة اليد عن مال المسلمين فهو يقول: {إنّي أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي اليتيم، إن أيسرت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإن أيسرت قضيت،}
بين كتفيه ثلاث رقاع في ثوبه، تقول له ابنته حفصة ام المؤمنين رضي الله عنها {يا امير المؤمنين لو اكتسيت ثوبا الين من ثوبك، وأكلت طعاما هو أطيب من طعامك، فقد وسّع الله من الرزق، وأكثر من الخير، فقال: إنّي سأخاصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلقى من شدّة العيش، وكذلك أبو بكر؟ فما زال يذكّرها حتّى أبكاها، فقال لها: أما والله لأشاركنهما في مثل عيشهما الشديد، لعلّي أدرك عيشهما الرّخي}
كان عهد عمر مليء بالفتوحات، والازدهار، فتح الفتوح، وكتب التّاريخ للمسلمين، وجمع القرآن في المصحف، ودوّن الدواوين، فقفز بالدولة الإسلامية قفزة حضارية نوعيّة وامتدت أوردة الحضارة الإسلامية تغذّي الأرض من مشرقها إلى مغربها،
ويرقب أعداء الله امتداد دينه القويم، ومناعة حصن الإسلام الحصين وعمر الفاروق، يقف حارسا امينا على مكتسبات الأمة، كما هو حارس أمين على حرمات الله، فتمتد يد الغدر الآثمة المثقلة بأحقاد المجوسية البائدة، فتغمد خنجرها الحاقد في خاصرة الخليفة الطاهر العادل، ويعلم أن قاتله كافر مجوسيّ فيقول {الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدّعي الإسلام}
ويرسل ولده عبد الله إلى عائشة أم المؤمنين يطلب أن يدفن إلى جانب صاحبيه في حجرتها، فيجدها تبكي عمر، وتستجيب عائشة يه الى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كانت تريد المكان لتدفن قائلة {لقد كنت أريده لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي}
فيدفن إلى جوار صاحبيه غير مغيّر ولا مبدّل رضي الله عنه وأرضاه.