الطفل المسلم
حفرة القروش
قالت والدتي ذات يوم وقد جاء أخي يحمل على رأسه طبق قش دائري كبير، في وسطه صرّة قماش ملوّنة، تنبعث منها رائحة أرغفة قمح سمراء ساخنة، تكفي ثلاث وجبات لإثني عشر فماً، هم جميع أفراد أسرتي، والابتسامة تملأ وجهها الجميل: يبدو أنّ المخبز مزدحم بأطباق العجين هذا الصباح يا بني.
ـ في المخبز أطباق قش بعدد بيوت الحي، فيها أقراص عجين لا تحصى
ـ وهل يستطيع الناس الاستغناء عن خبزهم اليومي يا بني؟
ـ كلاّ إنّهم لا يستطيعون، ولكن ألا يستطيع صاحب المخبز زيادة عدد عمّاله، أو أن يشيّد الناس مخبزاً جديداً يا أمي.
وجاءت والدتي بطعام شهي في عدّة صحون داخل طبق نحاسي، فتربّعت الأسرة حول طعام الإفطار، وبدأت الأيدي الصغيرة تتقاسم الأرغفة الساخنة، بينما كانت والدتي تقف خارج الدائرة سعيدة فرحة.
وجاءت رياح الخماسين
اشتد القيظ، وغاب قرص الشمس خلف سحب الغبار، وامتلأت شرفات المنازل، ومداخل البيوت بالرمال الناعمة السمراء، التي حملتها رياح الخماسين.
كل شيء في مزرعة أبي إسماعيل النجدي بقي ساكناً، حتى أغصان الأشجار كانت متحجرة، كأنها قطعة من جدار، وانقطعت الدروب، وزادت وحشتها في الظلام.
أغلقت الأسرة عليها أبواب المنزل بإحكام، وتشاغلت بالأحاديث الودية، بينما كانت حبات الرمل تسقط بلطف فوق زجاج الشرفات.
أما حيوانات المزرعة، فقد ساقتها أم إسماعيل إلى الإسطبل في وقت مبكر، ومعها أعلافها وماءها، واضطر كلب الراعي في تلك الليلة المظلمة إلى المبيت في معلف الحمار، والاستمتاع برطوبة المكان المزدحم بالسكان على مضض.
فزّاعة لا تهابها العصافير
فرغ فلاّح من حرث أرضه بعد شتاء ممطر، وتخيّر من جيّد الحبوب نوعاً غالياً فنثره بعناية، ثم جلس يتأمل الأرض السمراء بسعادة، ويقلّب كفيه المتقرّحتين، وهو يحلم بغلّة وافرة، وربح كبير.
رأى من بعيد أسراب العصافير المهاجرة تعود إلى الحقول والمزارع وهي تغرّد فرحة بإقبال الربيع، وذوبان الثلوج، وارتفاع الحرارة، بينما كانت أشعة الشمس تلوّن السماء بلون الشفق، فغادر الحقل إلى كوخه الخشبي القابع في أعلى الهضبة كالصومعة، وقد أعياه التعب، أما ثيرانه المجهدة التي هدها الجوع والعطش، فقد تركها ترعى بقية النهار على أطراف السلاسل الحجريّة التي تحيط بالمزرعة، قبل أن تعود إلى الزريبة الدافئة.
في اليوم التالي شاهد الفلاح العصافير الجائعة تنقضّ على الحقل دون استئذان، وتلتقط الحبوب بمناقيرها لتملأ بها حويصلاتها الفارغة بنهم. فقال: إن تركت أسراب العصافير عدّة أيام أخرى تجمع الحبوب هكذا فلسوف يفرغ الحقل من البذار، وسيذهب جهدي ومالي سدى.
وهداه تفكيره إلى نصب فزّاعة وسط الحقل، فأتى بقطعتين من الخشب، انتزعهما من السياج على عجل، وقام بتثبيتها بشكل متصالب بواسطة حبل متين من الليف، ثم جاء بمعطف بال قديم فألبسه الخشبة، وجعل أكمامه تتدلّيان نحو الأسفل، بينما كانت الخشبة الأفقية تحمل كتفي المعطف.