وجاءت رياح الخماسين
اشتد القيظ، وغاب قرص الشمس خلف سحب الغبار، وامتلأت شرفات المنازل، ومداخل البيوت بالرمال الناعمة السمراء، التي حملتها رياح الخماسين.
كل شيء في مزرعة أبي إسماعيل النجدي بقي ساكناً، حتى أغصان الأشجار كانت متحجرة، كأنها قطعة من جدار، وانقطعت الدروب، وزادت وحشتها في الظلام.
أغلقت الأسرة عليها أبواب المنزل بإحكام، وتشاغلت بالأحاديث الودية، بينما كانت حبات الرمل تسقط بلطف فوق زجاج الشرفات.
أما حيوانات المزرعة، فقد ساقتها أم إسماعيل إلى الإسطبل في وقت مبكر، ومعها أعلافها وماءها، واضطر كلب الراعي في تلك الليلة المظلمة إلى المبيت في معلف الحمار، والاستمتاع برطوبة المكان المزدحم بالسكان على مضض.
وقبل أن تتوقف العاصفة الرملية، كانت أسرة أبي إسماعيل النجدي التي فقدت عائلها، قد قضت ثلاثة أيام وسط الإعصار، تشهد زحف الرمال على الحقل والمنزل، وتهددهما بالغرق، بينما كانت الأم تبتهل إلى الله بالنجاة
.
واضطر الفتى إسماعيل وأخواه للخروج من النوافذ هذه المرة، لإزالة الرمال التي أغلقت باب المنزل، والوصول إلى باب الإسطبل لتزويد القطيع الجائع دوماً بالأعلاف، وسحب البيض من طاقة الجدار، قبل أن تحضنه الدجاجات وتمتنع عن البيض.
أشفقت أم إسماعيل على أبنائها البقاء في هذا المكان النائي، وقد بلغ بها التشاؤم مبلغاً ظنت فيه أنه لا مناص من زحف الصحراء على المزرعة، فدعت أبناءها لمغادرة المكان، والنجاة بأنفسهم، والالتجاء إلى قرية أخوالهم، إلا أن أكبرهم الفتى إسماعيل هدأ من روع أمه، ودعاها للتجلد والصبر، وعدم الاستسلام، وقال لأمه:
لن أغادر المزرعة حتى ولو اضطررت للبقاء فيها وحدي، فإن كل جدار فيها أو شجرة تذكرني بوالدي.
ذرفت الأم الدموع من مقلتيها، وبدا على وجنتيها الحزن والقلق الشديد، لأنها لم تفكر يوما بمغادرة المزرعة، أو مفارقة مسارح ذكرياتها السعيدة.
وقال الفتى إبراهيم: لن نغادر المزرعة جميعاً، لأننا عازمون على إزالة آثار العاصفة، وإعادة الخضرة والنضارة إلى المزرعة، كما تركها لنا والدنا
وفي صباح اليوم التالي، وقد سكن كل شيء وعادت الأمور إلى طبيعتها، تقاسم الأبناء الثلاثة العمل والأدوات، وكان من نصيب إسماعيل العربة الخشبية، أما إبراهيم فتولى نقل الرمال على ظهر الحمار.
فكشطوا الغبار المتراكم فوق الشرفات والنوافذ، وكشفوا فوهة البئر، فشربوا ودوابهم جميعاً، ونقلوا ما تراكم فوق ساحة المنزل من الأتربة والرمال إلى مكان قصي، بينما كانت الأم تعد وجبة دسمة لأبنائها، وتزيل ما لحق بأثاث البيت من غبار، وتتولى العناية بحيوانات الإسطبل.
وفي المساء، جلست الأم بين أبنائها الثلاثة حول طبق دائري من الجريد، يحوي عدة أطباق من الطعام الشهي، وعدداً من الأرغفة أعدتها أم إسماعيل في تنور المزرعة، فأكلوا جميعاً، وتحدثوا بمودة، حتى تسرب الكرى إلى أجفانهم وقد أنهكهم التعب، وشدة الحر، وناموا مبكرين
وفي اليوم التالي قال إسماعيل: لقد أنجانا الله هذه المرة من عاصفة الرمال، ولكننا لا نعلم ما سيحل بنا في المرة القادمة.
وقالت الأم: إن الصحراء تتقدم سنة بعد أخرى باتجاه مزرعتنا، ألم تلاحظوا أن أكثر أصحاب المزارع قد هجروها، ولا بد من وقف زحف الصحراء على المزرعة إذا قررنا البقاء فيها.
وقال إبراهيم: وهل نستطيع بما نملك من عدد يدوية بسيطة وقف الكارثة التي تنتظرنا؟
قال إسماعيل: لا بد من عمل يمنع الرمال من اقتحام المزرعة، مهما كلفنا ذلك من جهد ووقت.
وقال الأخ الصغير، وكان يسكت طوال الوقت، وينصت للحوار بين أمه وأخويه: أقترح عليكم بناء جدار مرتفع في أقصى المزرعة.
قال إسماعيل: وأين كنت كل هذا الوقت يا عدنان، إنها فكرة مدهشة. أنت رائع يا عدنان.
وقال إبراهيم: ولكن من أين نأتي بمواد البناء.
قال إسماعيل: المزرعة مليئة بالأحجار الصلدة، وهذه فرصتنا للتخلص منها.
وسمعت الأم حوار أبنائها الثلاثة، فقالت باعتزاز: إنكم تملكون عقولاً كبيرة متشابهة، على صغر سنكم، وإني أشفق عليكم من هذا العمل الشاق.
قال إسماعيل: رأسان خير من رأس واحدة، أما نحن فثلاثة رؤوس، أليس كذلك يا أمي؟
وفي اليوم التالي رسم الأخوة الثلاثة حدود المزرعة، وشمروا عن ساعد الجد، فبدأوا بحفر أساس الجدار، وجعلوه خندقا، ملأوه بالأحجار والطين، طبقة فوق طبقة، فلما استوى بالأرض، شدوا عليه خيطاً لتحقيق استقامة الجدار.
ثم باشروا برفع الجدار، مدماكاً من الحجر فوق مدماك، وجعلوه عريضاً، ومستقيماً، وعموديّاً متماسكا بالطين، خشية الانهيار.
قالت الأم: لقد استغرق إنجاز الجدار وقتاً كبيراً، وجهداً عظيماً منكم يا أبنائي، ولكنكم لن تدركوا قيمة ما أنجزتم وأهميته إلا عند هبوب رياح الخماسين.
قال الصغير عدنان: كم شهراً ستتأخر رياح الخماسين يا أمي؟
ضحك الجميع وقالوا: وهل تريد أن تجرب صلاحية الجدار يا عدنان؟
وقالت الأم: عدة أشهر، نحبس بعدها داخل جدران البيت، ويسجن الكلب مع الحمار في الإسطبل.
وقام الثلاثة فزادوا عدد أشجار النخيل في الحديقة وجعلوها صفوفاً منتظمة، وزرعوا الأرض الطيبة بالبرسيم والحبوب، وكسوها بحلة البهجة والبهاء، حتى غدت مزرعة أبي إسماعيل مثل جزيرة خضراء على تخوم الصحراء.
وببركة هذا البيت الكريم، وتعاون أفراده وتراحمهم، أغدق عليهم ربهم من الخيرات والرزق الوفير.
فلما جاءت رياح الخماسين، وتحركت الرمال، وقف جدار مزرعة أبي إسماعيل سداً منيعاً أمام زحف الصحراء.
الزيارات: 2066