حمامة بطلة
طوقت المدينة واشتد الحصار حولها، وبات سقوطها أمام زحف الغزاة أمراً متوقعاً، بسبب ضخامة الحشود، وشراسة الأعداء، إلا أن حامية المدينة رفضت الاستسلام، وأخذ الأهالي يحفرون الخنادق، ويستعدون لملاقاة المغيرين.
واجتمع وجوه المدينة مع الأمير وقائد الجند للنظر فيما آلت إليه أحوال الناس بسبب الحصار. وقرروا طلب النجدة من الإمارة المجاورة، ولكن من يستطيع أن يوصل رسالة الاستغاثة إليها ؟ وهنا تقدم فارس جريء من شبان المدينة مبدياً استعداده للقيام بهذه المهمة العسيرة، والتضحية بروحه من أجلها.
ووسط الإعجاب والتشجيع دس الرسالة في جيب سترته، وامتطى جواده المسرج، ثم انطلق كالسهم من بوابة المدينة. إلا أن الجنود المحاصرين اشتبكوا معه، وقطعوا عليه الطريق، وأخذوه إلى قائدهم أسيراً.
وكان طفل يتيم يعيش مع جدته في برج مهجور قد شاهد جرأة الفارس وجسارته، من كوة البرج الحجري، فجلس يفكر ويبحث عن وسيلة مجدية وسريعة لاستئناف دور الفارس الأسير، وإيصال رسالة الاستغاثة التي مزقها الفارس قبل أن يسقط في الأسر، قائلا: يا إلهي ساعد ني لإنقاذ المدينة.
شاهدت حمامة البرج الزرقاء الفتى همام يجلس حزيناً، وقد أعياه التفكير، ففتحت جناحيها المخططين باللون الأسود، واندفعت بجسمها القوي الممتلئ بالصحة، مثل زورق صغير نحوه، ثم حطت بهدوء على كتفه، ومدت منقارها العريض نحو أذن الفتى همام.
وكان همام وحده يفهم لغة حمامته الوفية، ويدرك الدور الذي تستطيع أن تقوم به.
نهض همام وهو يمرر أصابع كفه بحنان وسط صدر حمامته المحلى بالريش الأزرق الكثيف، ثم وضعها في صدره.
وتوجه نحو قصر الأمير وسط دروب المدينة المقفرة، التي أعياها الحصار، مسرع الخطى، بينما كان رأس الحمامة يطل بين أزرار قميصه الأرجواني المخطط على أطفال الأزقة الضاحكين.
ووسط جموع المحتشدين أمام القصر، شق همام طريقه نحو البوابة الرئيسية، وتقدم من أحد الحراس المسلحين محيياً، حتى اضطر الحارس أن ينثني ليلتقط همسات الفتى.
استدار الحارس فجأة نحو بوابة القصر، وصعد درجاً صغيراً، ومن خلفه همام يتبعه بخطوات مديدة داخل ممرات القصر، ثم توقف الحارس، وأذن له بالدخول على الأمير.
وقف همام أمام الأمير بكل جرأة وثقة بالنفس، يعرض استعداده لنقل رسالة الاستغاثة، ويشرح مقدرة حمامته على تنفيذ المهمة التي عجز الفارس عن تحقيقها، وفي قبضته رسالة الفارس الممزقة، حتى أقنع الأمير.
أخرج همام الحمامة من ثنايا قميصه، وألقاها على منضدة خشبية تنتصب بجوار مقعده، والعيون تحيطه بالبهجة. وجاء الأمير بكاتبه، فأملى عليه رسالة موجزة، كتبها بخط واضح على ورق رقيق، ووضع عليها خاتمه، وطواها بشكل أسطواني، فقام الفتى همام باستلامها واقفاً، ثم شدها تحت جناح الحمامة، واستأذن الأمير بإطلاقها حتى تصل قبل حلول الظلام، وتقدم من النافذة فأرسلها في فضاء حديقة القصر.
حلقت حمامة همام فوق قباب القصر، ثم اتجهت نحو الإمارة المجاورة بكفاءة عالية وغريزة اهتداء قوية وراحت تسبح في السماء بجناحيها دون توقف وهي تراقب الأرض بعينين براقتين، أحاطت سوادهما دائرتان حمراوان وجفون بيضاء غير مكترثة بما يجري حول المدينة من استعدادات حربية.
في اليوم التالي عادت حمامة همام إلى البرج ومعها رسالة حملها همام إلى الأمير، فأخذ الأمير يقرأها بصوت مسموع أمام الحاضرين: وصلتنا رسالتكم، ثبتوا المهاجمين أمام المدينة ريثما تصلكم نجدتنا.
وهنا ضج المجلس بالتكبير والإعجاب، وزادت المقاومة والاستبسال حول المدينة حتى اضطر الغزاة إلى فك الحصار والرحيل قبل وصول النجدات.
واحتفلت المدينة احتفالا عظيما لم تشهد مثله من قبل، وكان من أوائل المكرّمين حمامة همام البطلة. (تمت)
الزيارات: 1841