القتال عن بعد...المرتزقة
عرفت شعوب العالم القديم الجنود المتجوّلين اللصوص الذين لا جنسيّة لهم ولا وطن، ولا قضيّة، ولا شرف، واستخدمهم المصريّون القدماء زمن رمسيس الثاني في معركة "قادش" ضد الحيثيين، واستخدم أمراء الفرس المرتزقة الإغريق في صراعاتهم على العرش، واستأجر أغنياء مدينة (شنغهاي) المرتزقة بقيادة الأمريكي (فريدريك وارد)، لحماية المدينة وردع الخطر المحدق بها، خلال الحرب الأهلية الصينية التي بدأت سنة 1851.
وقبل أن تتحوّل إلى شركات، ظهرت عبر التاريخ مجموعات مقاتلة تختص بحماية الأباطرة والأثرياء وكبار رجال الدين، أو حماية السفن والقوافل التجاريّة، والسكك الحديديّة (خلع الخط الحديدي الحجازي)، مقابل أجر مادي سخي.
وكانت السلعة الرخيصة التي تستهلكها هذه الشركات في معاركها المدفوعة الأجر ولا تزال هي: قدامى المحاربين، والمسرّحين من الخدمة، والعاطلين عن العمل ممن هانت عليهم أنفسهم، فلم يجدوا مانعاً من بيع أنفسهم للشيطان، وارتكاب أبشع الجرائم لصالح الجهة التي تمولهم بالمال والسلاح.
وكثيراً ما كان المرتزقة ينسبون النصر لأنفسهم لينالوا رضى أربابهم، ويشاركون في أعمال السلب والنهب بعد كل معركة ينتصر فيها أسيادهم، كما ينال كلاب الصيد بعض الطرائد النتنة.
وشتان بين عين باتت تحرس في سبيل الله، ورجل ربط فرسه على الثغور لصد العدو، وفارس عربي جاهلي يدعى عنترة القائل وهو يخاطب عبلة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وبين هؤلاء الخصيان الذين (يعفّشون) البيوت بعد قصفها بالبراميل وتهجير أهلها.
وهنا يجب التفريق بين شركات المرتزقة والشركات الأمنيّة المرخّصة التي انتشرت في أيّامنا، لحراسة البنوك، ونقل الأموال، وحماية الشخصيّات من الاغتيال، على غرار شركات النظافة التي تقوم بتنظيف المكاتب والأماكن العامّة بموجب عقود رسميّة، وهي مهمات لا يعترض أحد على ممارساتها المشروعة.
ولكن الاعتراض على تلك الشركات الأمنيّة المتخصّصة بتنفيذ المهام القذرة، التي يخجل مموّلوها عن الانخراط فيها لفسادها وسوء سمعتها وانحيازها للطغاة ووقوفها ضد الشعوب وقضاياها العادلة.
وشهدنا في هذا الزمان النكد، كيف تهدر الأموال، وتشترى الذمم، وكيف تقوم بعض الجهات التي يتدفّق الذهب الأسود من تحت أقدامها (ذي الرز على حدّ قول صاحبنا)، لدعم الانقلابات العسكريّة، وإسقاط الأنظمة الديمقراطيّة المنتخبة، وتمويل (الغاردنر الروسيّة) التي تتخفّى روسيا بوتين خلفها في ليبيا وأرمينيا وشمال سوريّة، بدلاً من استثماره في تنمية الوطن العربي وبناء الإنسان المنتمي لأمته ووطنه، وتنمية القرى والمدن، وبناء المدارس والمستوصفات، وجرّ المياه إلى المناطق العطشى، وشق الطرق، وربط العالم العربي بشبكة سكك حديديّة، واستصلاح الأراضي البور، ووقف التصحّر وزحف الرمال، وبناء السدود، وزيادة الرقعة الزراعيّة، ودخول عصر المكننة الزراعيّة.
وكان لتجنيد المرتزقة واستخدامهم كأداة للوصول إلى الأهداف الخفيّة بالمال، الوقع المؤلم على ضمائر الأحرار في عالمنا المعاصر، لما فيه من انتهاك خطير لحقوق الإنسان، وتسخير الاشرار لارتكاب الجرائم بالوكالة، حيث يتخفى المجرم الحقيقي وراء المرتزق.
وجرت مناقشة موضوع المرتزقة على منابر الأمم المتحدة في ديسمبر عام 1989، وخرج العالم بالاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، حيث اعتبرت أن كل مرتزق وكل من يجند أو يستخدم أو يمول المرتزقة مجرم، كما حظرت على الدول تجنيدهم واستخدامهم، إذ لا يتمتع المرتزق بوضع المقاتل أو أسير الحرب.
ومع هذا فقد استمرّت الانتهاكات، وتصاعدت عمليّات تجنيد واستخدام وتمويل المرتزقة في العالم، حتى ضاقت المقابر على ساكنيها، وانطبق علينا قول رسولنا الكريم: "والَّذي نَفسِي بيدِه، ليَأتِيَنَّ علَى النَّاسِ زمانٌ لا يَدرِي القاتِلُ في أيِّ شيءٍ قَتَلَ، ولا يدرِي المقتولُ في أيِّ شيءٍ قُتِلَ".
وطوبى للغرباء رئيس التحرير
لندن في 1/10/2020 محمد علي شاهين
الزيارات: 4352